الساحة اللبنانيةالعالم العربي

نازحون سوريون لم يعودوا بعد سقوط الأسد… ما هي الأسباب؟

ظن البعض في لبنان، في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، أن المرحلة المقبلة ستشهد عودة أعداد هائلة من اللاجئين السوريين من لبنان إلى بلدهم، إلا أنه، وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على رحيل الرئيس السوري، تبيّن أن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك، فقد عاد عدد أقلّ من المتوقع.

وقد ضخّمت شخصيات لبنانية، بعد سقوط الأسد في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، توقعات بعودة أعداد ضخمة من اللاجئين من لبنان إلى سوريا، ودعت تلك الشخصيات إلى إعادتهم بعد أن “انتفت أسباب وجودهم في لبنان”. مع ذلك، كانت حركة العودة أكثر تواضعاً، في الحقيقة؛ وذلك لأن الأسباب التي دفعت ما يقارب مليون ونصف سوري للنزوح إلى لبنان، والتي لا تزال تمنع عودتهم، أصعب من أن تحلّ بمجرد رحيل الأسد وتفكك نظامه. فإن تذليل العقبات أمام عودة اللاجئين السوريين من لبنان يحتاج المزيد من العمل والوقت، كما يتطلب التعاون بين لبنان وشركائه الدوليين.

وقد قمت بمسح للتحرّكات السكانية عبر الحدود اللبنانية-السورية منذ سقوط الأسد في تقرير جديد صادر عن مركز القرن الدولي (Century International) الأميركي، بهدف تقديم صورة للواقع الديمغرافي المتغيّر في البلدين، وعبر حدودهما المشتركة، مع تشخيص للعوامل التي تدفع السوريين إلى التحرك أو عدمه، وذلك بناء على لقاءات مع سوريين قابلتهم في مخيمات عكار والبقاع، ومصادر أخرى، منهم عاملون في المجال الإنساني ومسؤولين لبنانيين ودوليين.

وعبّر لاجئون سوريون مقيمون في لبنان منذ سنوات عن تمنياتهم بالعودة، أخيراً، إلى بلادهم، بعد عمر من الفراق والغربة؛ وذلك بعد زوال خطر الإخفاء القسريّ والتعذيب على أيدي الأجهزة الأمنية السورية والسوق إلى الخدمة العسكرية الإجبارية للشباب. ومع ذلك، قال لي الكثيرون منهم إنهم لا يطمئنون إلى الوضع في سوريا الذي لا يزال “مكركب”، وفق ما وصفته لي امرأة حمصيّة. فبينما يوجد أمان في بعض المناطق السورية، لا تزال تشهد مناطق أخرى انفلاتاً أمنياً واشتباكات وقصفاً. كذلك يُعبّر بعض اللاجئين عن قلق بشأن مستقبل سوريا، في ظل التحوّلات والتغييرات الجذريّة، التي مرّ بها البلد أخيراً، وعلامات الاستفهام العالقة فوق نظامه السياسي الناشئ.

كذلك تشغل بال اللاجئين الذين يتأمّلون العودة أمور مادية، منها الحاجة إلى السكن والخدمات الأساسية وفرص العمل، لكي يطعموا عائلاتهم ويوفروا لها الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة. فبالرغم من أن السوريين الذين جلست معهم بين الخيام لا يعيشون برخاء، فإنهم قد حققواً نوعاً من الاكتفاء والاستقرار المعيشي في لبنان عبر الجمع بين العمل المياوم وبعض المساعدات الإغاثية. وفي مقابل ذلك، تمثل العودة إلى بلد “اقتصاده مدمّر” -وفق تعبيرهم- مغامرة خطيرة، فيما لا يوفّر عملاً، ومناطقه تفتقد إلى “مقومات الحياة”، بالنسبة إليهم. وقال لي هؤلاء اللاجئون إنهم يتابعون الأوضاع في سوريا عبر التواصل مع أقربائهم ومعارفهم ممن عادوا إلى سوريا أخيراً أو بقوا خلال الحرب، ولكنهم، حتى الآن، وصلوا إلى قناعة بأن الظروف في داخل سوريا ليست مناسبة للعودة بعد.

ولم تفصح السلطات اللبنانية عن عدد العائدين من لبنان إلى سوريا، على خلاف دول جوار أخرى مثل تركيا والأردن. وقد يعود ذلك لكون العدد لا يرتقي إلى توقعات الجمهور اللبناني. أما الجهات الأمميّة، فأنها كشفت أخيراً عن تقديرات بما يزيد عن 123000 سوري عبر من لبنان إلى سوريا منذ كانون الأول، إلا أن تلك الأرقام لا تمثّل عدد “العائدين” حقيقةً، إذ تعتقد مصادر إنسانية أن نسبة كبيرة من السوريين الذين عبروا من لبنان إلى سوريا بعد سقوط الأسد قطعوا الحدود لزيارة أهاليهم ومناطقهم، ثم رجعوا إلى لبنان عبر طرق غير شرعية. كذلك تعتقد المصادر نفسها أن نسبة جيّدة من السوريين، الذين نزحوا من لبنان إلى سوريا خلال التصعيد الإسرائيلي بين شهر أيلول (سبتمبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) الماضيين، رجعت إلى لبنان كذلك، وعبر نفس طرق التهريب.

وما يزيد واقع التحركات العابرة للحدود تعقيداً، حركة النزوح الجديدة التي يشهدها لبنان من سوريا. وقد اتّسم هذا النزوح الجديد بموجتين أساسيتين، كان أوّلها وصول ما يقارب الـ 70 ألف سوري و 20 ألف لبناني إلى قضاء الهرمل في شهر كانون الأول؛ وثانيها نزوح نحو 36 ألف سوري (وفقاً لآخر إحصاء للسلطات المحلية اللبنانية) من الساحل السوري إلى شمالي لبنان هرباً من المجازر بحق العلويين السوريين التي وقعت في شهر آذار (آذار). كذلك دخل إلى لبنان، إلى جانب هاتين الموجتين الأساسيتين، عدد غير معروف من السوريين الآخرين عبر المعابر الرسمية وطرق أخرى بعد سقوط الأسد، خشية الاستهداف بتهم الارتباط بالنظام السابق أو الاضطهاد من قبل مسلّحين إسلاميين.

ولن يستطيع هؤلاء السوريون الذين وصلوا أخيراً أن يرجعوا إلى سوريا بأمان خلال المرحلة المقبلة، وسوف يحتاجون إلى المأوى والعون من قبل اللبنانيين وشركائهم الدوليين، فيما يستمر، حتى الآن، تدفق المهجّرين من الساحل السوري عبر النهر الكبير الجنوبي، حيث يتجمّع مساكين، هربوا بنسبة كبيرة منهم بثيابهم فقط، في مناطق علوية في محافظتي عكار والشمال، ذات إمكانيات محدودة جداً أصلاً.

فالواقع المؤسف أن لبنان سوف يواجه – على عكس التمنيات بعودة اللاجئين قبل عدة أشهر– المزيد من الانسيابية الديمغرافية عبر حدوده مع سوريا خلال الفترة المقبلة، كما أنه ليس لدى لبنان وسائل كثيرة لضبط التحركات عبر حدوده، حيث تحكم تلك الحركات، بالدرجة الأولى، الظروف والديناميات في الداخل السوري، والتي من شأنها إما أن تجذب المزيد من العائدين إلى سوريا أو أن تدفع عدداً أكبر من السوريين للفرار من واقع لا يُحتمل.

وبالرغم من ذلك، فإن لبنان لديه بعض الخيارات العملية البراغماتية لتمكين عودة السوريين إلى بلادهم، وتخفيف أعباء النزوح عن المؤسسات اللبنانية؛ من هذه الخيارات التعاون بين السلطات اللبنانية وبين المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بشأن السماح للزيارات القصيرة من قبل اللاجئين للاطلاع على الأوضاع في سوريا، والتوقف عن بعض الممارسات عند المعابر الحدودية الرسمية مثل فرض رسوم على السوريين العائدين من لبنان وإصدار قرارات منع دخول بحقهم، والتي تدفع السوريين إلى البقاء في لبنان أو التنقّل عبر الطرق غير الشرعية. كذلك يمكن للحكومة اللبنانية الاستمرار في ضغطها على الجهات المانحة لدعم الاستجابة الإنسانية في سوريا ومشاريع التعافي التي قد تسمح للعائدين بالاستقرار في مناطقهم الأصلية. وعلاوة على ذلك، يمكن للسلطات اللبنانية، ومن أجل إدارة النزوح الجديد من سوريا، أن تسمح للمفوضية بأن تسجّل النازحين الجدد، وبذلك يجري تكوين صورة أوضح لدى الجهات الإنسانية والدولة اللبنانية لخصائص هؤلاء النازحين وحاجاتهم.

وقد تتضح خيارات وحلول أخرى مع مرور الوقت، حينما تتبلور علاقات لبنان بالسلطات السورية الجديدة ويتبين المجال للتعاون بشأن النزوح وعودة اللاجئين. ولكن، في الوقت الراهن، يجب على لبنان أن يتطلع إلى المزيد من التقلبات – بل الانتكاسات – في ملف العودة، وأن يسلك هذا الملف مساراً طويلاً وملتوياً.