الساحة الفلسطينيةالساحة اللبنانية

حين يتحدث «الموظّف» بلسان «الباحث»

كتب الشيخ محمد اللبابيدي الامين العام للإفتاء الفلسطيني في لبنان

تناقض الخطاب… من الحرمان إلى «النعيم»

يبدأ دبسي حديثه بالإقرار بأن المخيمات الفلسطينية تعيش أوضاعاً صعبة وحرماناً مزمناً، ثم لا يلبث أن ينقلب على هذا التوصيف ليزعم أن الفلسطيني في لبنان يعيش وضعاً معيشياً «أفضل من اللبناني».
هذا ليس تحليلاً، بل قفز فوق الوقائع، وتناقض داخلي فاضح: إما أن المخيمات تعاني، أو أنها تنعم بالاستقرار. الجمع بين النقيضين لا يصنع فكراً، بل يفضح وظيفة الخطاب.
الأخطر أن هذه المقارنة تُجرى خارج أي إطار قانوني أو بنيوي. اللبناني، مهما بلغ انهياره الاقتصادي، يبقى مواطناً في دولته، يتمتع بالحق في العمل، التملك، الضمان الاجتماعي، الطبابة الرسمية، والتعليم العام. أما اللاجئ الفلسطيني في لبنان، فهو محروم قانوناً من:
• العمل في أكثر من 70 مهنة بموجب قوانين ونقابات مهنية.
• التملك العقاري (القانون 296/2001).
• وغيرها من انعدام الحقوق الانسانية والضمان الاجتماعي
فأي عبقرية تحليلية هذه التي تقارن بين من ينهار داخل دولته، ومن يُسحق خارج أي حماية قانونية؟

كذبة «لا جائع في المخيمات»

حين ينفي دبسي وجود الجوع في المخيمات، فهو لا يخالف رأياً سياسياً، بل يكذّب الأرقام الرسمية للأمم المتحدة.
تقارير الأونروا نفسها، وتقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي يمول وظيفته في لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني(UNDP)، تؤكد أن:
• أكثر من 93% من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يعيشون تحت خط الفقر.
• أكثر من 80% يعانون من انعدام الأمن الغذائي بدرجات متفاوتة.
هل هذه أرقام «الناشطين»؟ أم مؤامرة كونية؟ أم أن الباحث اختار ببساطة تجاهل المعطيات لأنها لا تخدم السردية المطلوبة من ممولي الخطاب أو بصورة أخرى سردية ممثل سيادة الرئيس الشرعي في لبنان؟

«حبتا الأسبرين»… حين يسقط الخطاب أخلاقياً
الذروة الأخلاقية لهذا الانفصال عن الواقع تتجلى في استخفافه بتقليصات الأونروا الصحية عبر جملة:
«شو يعني إذا نقصك حبتين أسبرين؟»
هذه ليست زلة لسان، بل مرآة ذهنية.
الأزمة الصحية في المخيمات لا تتعلق بالأسبرين، بل بـ:
• عدم تغطية عمليات القلب المفتوح.
• تقليص تمويل علاج السرطان.
• عدم تغطية جلسات غسيل الكلى بشكل كامل.
وقد وصلت الأمور إلى حد إصدار مستشفى الهمشري بيانات رسمية تطالب المرضى بتسديد فروقات مالية تعجز عنها عائلات بأكملها. تحويل هذا الجحيم اليومي إلى نكتة لغوية هو سقوط أخلاقي كامل، لا يليق بباحث ولا حتى بمعلّق عابر.

«ما شفت حدا بيتظاهر»… العمى الانتقائي

يقول دبسي إنه لم يرَ تحركات احتجاجية ضد الأونروا.
والسؤال هنا: هل العمى حسي أم وظيفي؟
المخيمات الفلسطينية شهدت:
• إغلاق مكاتب الأونروا في عين الحلوة، البداوي، الرشيدية، البرج الشمالي، شاتيلا.
• اعتصامات شعبية متكررة رفضاً للتقليصات بالخدمات حيث يمكنه أن يراجع أرشيف نفس القناة التي أعدت مقابلته.
عدم رؤية كل ذلك لا يعني عدم حدوثه، بل يعني أن صاحب الخطاب ينظر من زاوية المكتب، لا من أرض المخيم.

المقارنة المبتذلة مع غزة… الهروب للأمام

استدعاء إبادة غزة أو اشتعال الضفة لتبرير إنكار معاناة فلسطينيي لبنان ليس تحليلاً وطنياً، بل ابتزاز عاطفي رخيص. النكبة واحدة، لكن أشكال القهر متعددة. ومن يستخدم مأساة غزة لإسكات جوع لبنان، إنما يخدم ـ بوعي أو بدونه ـ سياسة التنصل من المسؤوليات.

الباحث أم الموظف؟

السؤال الجوهري الذي يتجنبه دبسي:
كيف يمكن لشخص يتقاضى راتبه كمستشار في لجنة رسمية، ويدير مركز دراسات، أن يظهر بهذا القدر من التطابق مع خطاب السلطة الفلسطينية في لبنان، وخصوصاً مع دائرة ياسر عباس، ثم يدّعي الحياد الأكاديمي؟ هل المال السياسي لا يؤثر في البصيرة؟ أم أن «الاستقلالية» تُعلّق عند باب المؤسسة، وتُستعاد فقط في السير الذاتية؟

نصيحة من صديق

المشكلة ليست في أن هشام دبسي أخطأ التقدير، بل في أنه اختار موقعاً ضد ناسه، ثم طالبهم بالصمت.
من يريد الحديث باسم المخيمات، عليه أولاً أن يسمعه. ومن يريد لعب دور الباحث، عليه أن يتحرر من وظيفة المبرّر. أما النصيحة الأخيرة، فهي بسيطة:
يوم واحد بلا راتب، بلا بطاقة مستشفى، وبلا «مركز دراسات»… كفيل بإعادة ضبط البوصلة.