إذا أرادوا أراد… وما بدّلوا تبديلا
كتب احمد بهجة
أمام عملاق بحجم الحاج محمد رعد يسكت الكلام وتصوم الأقلام، ولا يعود ممكناً قول أيّ شيء غير ما قاله هو نفسه في حضرة الشهيد عباس، ولكن ما يمكن فعله هو إجراء قراءة متأنية لما قاله، لا سيما أنّ له معاني وأبعاداً ودلالات كثيرة.
بالدرجة الأولى يؤشر كلام الكبير أبو حسن إلى معنى مهمّ جداً يتجلّى بهذا الإيمان الراسخ الذي يحدّد للمرء سلوكه وتصرفاته إزاء أيّ حدث قد يواجهه حتى لو كان هذا الحدث مصاباً جللاً كمثل فقدان فلذة الكبد، لأن لا شيء اسمه نصف إيمان في المدرسة التي ينتمي إليها النائب رعد.
لذلك رأيناه يعبّر بوضوح تامّ عن هذه العقيدة الثابتة التي يسير على هديِها، بقيادة سماحة السيد حسن نصرالله الذي علّم الجميع كيف يكون آباء الشهداء صابرين محتسبين أقوياء ثابتين على النهج الجهادي المقاوم.
هنا تأتي الدلالة على أنّنا في لبنان بتنا نعيش في ظلّ مدرسة جديدة مختلفة عما كان سائداً في أزمان سابقة حين كان الزعماء أو المسؤولون السياسيون يُسخّرون كلّ شيء في البلد من أجل استمرار عائلاتهم وتوريث أبنائهم المناصب ومعها الثروات الطائلة والأهمّ أنّ هؤلاء الأبناء يرِثون الشعبية التي عليها أن تكون في خدمتهم وطوع أمرهم «ع العمياني» ومن دون سؤال ولا جواب…!
المدرسة الجديدة المختلفة التي أرستها المقاومة قولاً وفعلاً هي أنّ قادتها لا يوفرون أبناءهم للمستقبل، بل يفخرون بأولادهم عندما يذهبون الى الخطوط الأمامية ويرفعون رؤوسهم بأولادهم عندما يرتقون شهداء…
هذا الكلام يأخذنا إلى بُعد آخر أنتجته هذه المدرسة وله أهمية كبيرة جداً، وهو البعد الذي يتجلى في ثقافة الانتصار التي رسّختها المقاومة في المجتمع، بعدما سادت ثقافة الهزيمة لفترات طويلة في المجتمعات العربية، ووصل معها العرب إلى كلّ ذلك التراجع في جميع النواحي وليس فقط في المواجهة مع العدو الصهيوني.
كانت تباشير ثقافة الانتصار قد بدأت مع حرب تشرين الأول 1973 حين استطاع الجيشان السوري والمصري كسر شوكة جيش العدو، إلا أنّ التحوّل في السياسة المصرية ورضوخ أنور السادات لمشيئة الولايات المتحدة حرم العرب من اكتمال انتصارهم وتحرير كامل أرضهم.
بعد ذلك واصل الرئيس الراحل حافظ الأسد سياسته الثابتة المبنية على المبادئ الوطنية والقومية التي لا تقبل أيّ تنازل أو تفريط بأيّ حقّ من حقوق الأمة مهما كانت التضحيات والأثمان. وهذا ما جعله يرفض بشدة المسار الذي ذهب إليه السادات وأوْصله إلى «كمب ديفيد» بكلّ ما فيه من انهزام واستسلام، وهو أيضاً ما جعله يرفض مسار «أوسلو» الذي فيه ما فيه من تنازل وتفريط بالأرض والحقوق.
في منتصف السبعينيات جاء وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر إلى المنطقة، ورغم الإغراءات من جهة والتهديدات من جهة أخرى، لم يستطع دفعَ الرئيس حافظ الأسد إلى التنازل عن ثوابته، وفي أحد اللقاءات المطوّلة قال «الثعلب» كيسنجر للرئيس الأسد بلغة التهديد «إنّ عدم القبول بالسلام المطروح على العرب سيُعيد المنطقة خمسين سنة إلى الوراء»، فسأله الرئيس الأسد على الفور: «هل تعني إزالة إسرائيل من الوجود، لأنّ إسرائيل لم تكن موجودة قبل خمسين سنة»؟
بقيَ هذا المنطق القوي والمحقّ يواجه وحيداً الأمواج العاتية التي أتت بها ما يُسمّى «عملية السلام» وخروج مصر نهائياً من دائرة المواجهة مع العدو بعد توقيع اتفاقات «كمب ديفيد»، إلى أن انتصرت الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني عام 1979، وأوّل أعمالها كان طرد السفير الإسرائيلي ومَن معه من طاقم دبلوماسي من طهران وتسليم مبنى السفارة إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
بعد ذلك حصل الاجتياح الصهيوني للبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت، ولم يجد المقاومون اللبنانيون إلى جانبهم إلا سورية وإيران والفصائل الفلسطينية المقاومة، وقامت ثلة قليلة من المقاومين بعمليات بطولية منها على سبيل المثال لا الحصر عملية «الويمبي» التي نفذها الشهيد خالد علوان، والتي على اثرها اندحر جيش العدو من بيروت بعدما جالت دباباته في شوارعها تنادي بمكبرات الصوت «يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون».
كان ذلك الانتصار دلالة هامة جداً على أنّ المقاومة هي وحدها القادرة على قلب المعادلات وفرض موازين قوى جديدة، وهكذا كان… حيث نشأ حزب الله وبدأ عمله المقاوم إلى جانب جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وحركة أمل، وأخذت الانتصارات تتوالى، بدءاً من انسحاب جيش العدو من الجبل، ثم من شرق صيدا وجزين، إلى أن كان الانتصار الكبير عام 2000، وبعده الانتصار الحاسم عام 2006، بحيث أدّى هذا المسار إلى ترسّخ ثقافة النصر في وجدان جماهير الأمة كلها، لتأتي انتصارات المقاومة الفلسطينية بشكل متتابع في حروب 2008 ـ 2009 و 2012 و 2014 مروراً بمعركة «سيف القدس» 2021، و «وحدة الساحات» 2022، و «ثأر الأحرار» 2023… وصولاً إلى اليوم الكبير في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حيث جاء الاسم على المسمّى وحدث الطوفان الذي جرف كلّ ما كان باقياً من أثر لثقافة الهزيمة، وها نحن نرى أشقاءنا في كلّ فلسطين كيف يفرحون بالانتصار رغم أنف العدو المهزوم، ورغم الخسائر الفادحة في الأرواح والأرزاق والممتلكات، ورغم آلام الجراح والفقد…
هذه هي بالضبط المعاني التي عبّر عنها الحاج محمد رعد، ولذلك نردّد أنّ «لله رجال إذا أرادوا أراد… وما بدّلوا تبديلا…